غالباً ما يخطئ الأوروبيون في أخذ تصريحات دونالد ترامب حرفياً وليس بجدية. ولعل هذا ما ينطبق على بريطانيا أكثر من غيرها، حيث يأمل على الأقل ستة من أعضاء حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة ألا يتم أخذ أي مما قالوه سابقاً عن الرئيس الأميركي المنتخب، والذي سيصبح قريباً الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، على محمل الجد أو الحرفية من قبل الإدارة الجديدة. وحين كانوا في المعارضة، وجّه وزيرُ الخارجية الحالي «ديفيد لامي»، ونائبة رئيس الوزراء «أنجيلا راينر»، ووزير الصحة «ويس ستريتنج»، من بين آخرين، إهانات لفظية إلى ترامب، حتى إن «جوناثان باول»، مستشار الأمن القومي المعيَّن حديثاً لرئيس الوزراء كير ستارمر، كتب أن «الاستماع إلى الرئيس ترامب، وهو يحاول أن يبدو تصالحياً» كان مثل سماع «بوريس جونسون، وهو يحاول أن يبدو جاداً». لكن هل تستطيع حكومة حزب العمال العملَ مع ترامب؟
أفادت الحكومة البريطانية الأسبوع الماضي بأن ستارمر اتصل بترامب ليعبّر له عن تهانيه «الحارة» (وهي صفة دبلوماسية بريطانية غير مألوفة) بفوزه. ووفقاً لـ «إنيجو لامبيرتيني»، سفير إيطاليا لدى المملكة المتحدة، فإن ستارمر كان الثالث في ترتيب المكالمات الترحيبية، بعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تتوافق سياستها المناهضة للحركات التقدمية مع البيت الأبيض الجديد.
ليس أمام الحكومة البريطانية خيار سوى التركيز على الإيجابيات: ترامب يُعرف عنه ميله إلى بريطانيا، ويمتلك ملاعب جولف في اسكتلندا، ويتذكر بحرارة ضيافةَ الملكة الراحلة إليزابيث الثانية. كما عمل لامي وراينر على بناء جسور مع فانس وآخرين في دائرة ترامب. ويشيد معسكر الرئيس المنتخب بالسفيرة البريطانية القوية كارين بيرس. ويقدر ترامب الشخصيات البارزة، لذا أوصى ستارمر بأن يكون أي بديل لبيرس على نفس القدر من الجاذبية.
ومع ذلك، يجب على ستارمر الحذر من شخصيتين غير متعاطفتين في بلاط الزعيم دونالد. إذ يتفاخر نايجل فاراج، زعيم حزب الإصلاح الشعبوي في المملكة المتحدة، بأنه يمتلك رقم الهاتف المحمول الشخصي للرئيس ترامب ويطمع في دور الوسيط عبر الأطلسي. أما إيلون ماسك، الذي تم تصويره مع عائلة ترامب ليلة الانتخابات في مار إيه لارجو، فهو منخرط حالياً في حرب كلامية مع ستارمر بشأن المنشورات التحريضية التي تستضيفها منصته «إكس». وبمبالغة ترامبية، يتوقع أغنى رجل في العالم حرباً أهلية وشيكة في بريطانيا، ولابد من التعامل مع هذين اللاعبين على محمل الجد، إن لم يكن حرفياً وبشكل دائم.
والخبر السيئ بالنسبة لبريطانيا هو أن تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 20% على الواردات من شأنه أن يخفض النمو في المملكة المتحدة بنسبة 0.7% و0.5% في العامين الأولين، وفقاً للمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية. كما يتوقع المعهد أن يكون التضخم أعلى من ثلاث إلى أربع نقاط مئوية، في حين أن أسعار الفائدة سوف تكون أعلى، بواقع نقطتين إلى ثلاث نقاط. ويرى المتفائلون أن الضربة لن تكون بهذه القوة، مع ترجيح عودة «روبرت لايتهايزر» لمنصبه القديم ممثلاً تجارياً أميركياً يمثل سبباً للتوتر لدى شركاء أميركا التجاريين. وتمثل أوكرانيا أولوية قصوى لبريطانيا باعتبارها حليفاً قوياً ومبكراً في الجهد الحربي.
وقد أثار وعد ترامب – أو تهديده – بفرض تسوية بين أوكرانيا وروسيا خلال «يوم واحد» قلقاً في العواصم الأوروبية. وفي أفضل السيناريوهات التي حددها وزير خارجية ترامب السابق مايك بومبيو في مقال بصحيفة «وول ستريت جورنال»، في وقت سابق من هذا العام، يمكن للإدارة أن تهدد بتزويد القوات الأوكرانية بكل قطعة احتياطية من المعدات الحربية الأميركية ما لم تأت روسيا إلى طاولة المفاوضات بشروط معقولة. ومع ذلك، لن يعود بومبيو إلى إدارة ترامب، حتى إنه اشترط أن تزيد المملكة المتحدة، وحلفاء آخرون في حلف شمال الأطلسي إنفاقهم الدفاعي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويساهموا بنسبة 80% من صندوق بقيمة 100 مليار دولار لدعم أوكرانيا.
ولا يمكن أن يستمر اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة إلى الأبد، لكن رؤساء الوزراء البريطانيين، مثلهم مثل القادة الأوروبيين الآخرين، تجنبوا لعقود دفع نصيبهم العادل لتعزيز السلام في قارتهم. إن خطة السلام الجديدة من شأنها على الأرجح أن تترك لروسيا مكاسبها، حيث ستكون أوكرانيا من دون ضمان أمني يمنع موسكو من العودة ذات يوم للحصول على شريحة أخرى من الأراضي.
وفي كلتا الحالتين، يجب أن يرتفع الإنفاق الدفاعي البريطاني، وهو احتمال غير مرحب به عندما زادت الحكومةُ الضرائبَ، بينما بقيت بالكاد ضمن قواعدها المالية، وقواتها المسلحة تستعيد توازنها في المسرح الأوروبي. أما حلفاء ستارمر، فهم في حالة من التذبذب. فالحلف الفرنسي الألماني الذي كان الاتحاد الأوروبي يعتمد عليه لا يكاد يعمل الآن.
ويقود المستشار الديمقراطي الاجتماعي أولاف شولتز في ألمانيا حكومة منتهية الصلاحية بعد انهيار ائتلافه الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من خطاب ماكرون القوي حول ضرورة دعم أوكرانيا، فإن حكومته لا تزال قائمةً بفضل دعم حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان المؤيد لروسيا. ولا تزال بروكسل منطقة ميتة بالنسبة للمملكة المتحدة. والتقدم نحو إعادة ضبط العلاقات التجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يمضي ببطء شديد. ويرى بعض الدبلوماسيين فرصةً لبريطانيا من أجل الانطلاق بمفردها. هل يمكن إقناع ترامب باستثناء المملكة المتحدة من تهديداته بفرض الرسوم الجمركية؟
يخشى بعضهم أن تخسر لندن في أي لعبة دبلوماسية تتأرجح بين الجانبين. من الصعب التنبؤ بقرارات ترامب القادمة، لكن التوقع المؤكد حالياً هو أنه في الوقت الذي يأمل فيه ستارمر أن يركز على أجندة داخلية صعبة، فإن الشؤون الخارجية ستشغل حيزاً كبيراً من اهتمامه. ويجب التعامل مع ترامب في إدارته الثانية، حيث لا تقيده هذه المرة قيود الكونجرس، بجدية كبيرة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»
مارتن إيفينز*
*محرر بصحيفة «التايمز»